تعديل

السبت، 9 نوفمبر 2013

إشكالية الحرية من منظور نفسي بقلم : د / أيمن غريب قطب ناصر







         

    
قد تكون سمة الحرية هي السمة المميزة لأسمى مراتب الإنسانية في كافة مراحلها    و على مر العصور و الأزمان و على كافة الأصعدة و المراحل .
و لست هنا بصدد الكلام عن الحرية في عبارات إنشائية و لكن الهدف من ذلك هو تناولها من منظور نفسي بحت.
و المقصود بالحرية هو قدرة الفرد على الاختيار و تحقيق هذا الاختيار دون أية معوقات تعوقه عن ذلك بأي شكل من أشكال الإعاقة أو التضييق . و لهذه الحرية جوانبها المختلفة منها الحرية الشخصية . و هي إحدى مؤشرات النضج الإنساني    و تجعل من الفرد مسئولا. كما أنها صفة الرشد و أحد معاييره الهامة, فتعتبر حرية المراهق و الشاب أحد مؤشرات نموه الأساسية و معايير تحقيق الهوية لديه و محددات النضج لدى الشباب.و أحد نواتج ذلك تميز اختياراته لجوانب حياته  و خصائصه الشخصية و بلورة ذلك و تمييزها عن غيرها ليصبح فردا ناضجا حرا و معبرا و مسئولا.
وتعتبر حرية الحب و التعبير الانفعالي بأشكالها و مظاهرها المختلفة امتدادا طبيعيا للحرية الشخصية. و هي من أكثر الحريات حساسية نظرا لما يكتنفها من قيود اجتماعية مختلفة خاصة في المجتمعات المنغلقة و المحافظة. و نظرا لما قد يخالطها من شوائب و التباسات حيث نجد البعض يخلط بينها و بين مفهوم الجنس و يجعل بينهما تمازجا مصطنعا و أصولا واحدة... صحيح أن الحب قد يعبر عنه من خلال ذلك و لكن ليس بصورة فجة أو مصطنعة كما هو الحال في بعض المجتمعات الغربية من إطلاق تعبير الحب  على الممارسة الجنسية  ّ make love ّ أو غير ذلك من العبارات الشائعة و التشبيهات و الممارسات المماثلة لتتردى به إلى سلعة أو بضاعة رخيصة و مبتذلة منتقصة بذلك من قيمته و سموه و رقيه و متدنية به إلى أشكال من الشهوات و الرغبات الجسدية و الاستغلال العاطفي و المادي  و ليس كما هو كأحد أسمى أنواع الحرية .
أما حرية الإنسان الفكرية فهي مظهر من مظاهر النمو الشخصي و الاجتماعي. فحرية الفكر و المناقشة و إبداء الرأي دون أية قيود هي التي تجعل من الفرد متميزا و مبدعا خلاقا . يشعر بأهميته و قيمته مما يعود عليه و على مجتمعه بالازدهار      و التقدم و الرقي و التطور الفعال الإيجابي.فهي سمة المجتمعات المتقدمة فليس هناك مجتمع متقدم دون أن يتنعم أفراده بحرية الفكر و المناقشة و إبداء الرأي و بالتالي تكون ثمرة ذلك الإبداع و الثراء الثقافي و الفكري. و ذلك هو الذي يثمر عن نتائج إيجابية و فعالة في اتخاذ القرارات السديدة و نمو الإنسان نموا سليما.   فلا قيمة للإنسان و للمجتمع في ظل قيود فكرية تمارس عليه بأي نوع أو شكل من الأشكال. و منها القيود الاجتماعية البالية و العادات و التقاليد و الممارسات التي تحد من فكر الإنسان و تعيق نشاطه الذهني و العقلي و تأسره في قوالب جامدة و أنماط عقيمة محددة وبذلك تحد من نشاطاته و إبداعاته المختلفة .
و أما ضوابط هذه الحرية فهي شرط من شروط ازدهارها و تقدمها و لعل المقصود بها احترام الرأي و الرأي الآخر و إتاحة الفرصة للآخر للتعبير عن وجهة نظره     و المناقشة الحرة النزيهة الشفافة و الهادفة بهدف الوصول إلى الحقيقة. و قد يكون منها الإعراض عن الجاهلين و عدم الحجر الفكري لأي من الأفراد مهما قلت قيمته أو شأنه.
و هناك حرية العمل و هي التي تجعل من الفرد كائنا شريفا منتجا يملك إرادة نفسه    و القدرة على الحياة الحرة الكريمة. ولعل تضييق الفرص و الإمكانات على الأفراد عموما و الشباب خصوصا هو أحد أنواع فقدان هذه الحرية . سواء بإجبارهم على اختيار تخصصات أو مهن أو أعمال غير مناسبة لإمكاناتهم و لا تتماشى مع ميولهم أو التضييق عليهم و حرمانهم منها و ذلك من قبل الآباء و الموجهين و أصحاب السلطة و صناع القرار و التخطيط في مجتمعاتنا .
إن خروج الشباب إلى معترك الحياة دون وجود فرص حقيقية و عادلة للعمل و الحياة و ضياعهم في دوامة البطالة و الخواء الفكري و الثقافي و العقلي و من ثمة الوقوع في الانحرافات السلوكية و الأخلاقية لهو أحد نواتج فقدان هذه الحرية. فلو كانت هناك فرص حرة و جادة و عادلة للشباب للعمل و الإبداع و الإنتاج والابتكار لكان ذلك أفضل و أعظم سبل الإصلاح لديهم.
أما حرية الدين و العقيدة فلعل الدين الإسلامي هو أعظم الديانات إتاحة لفرص اختيار العقيدة فلا تضييق في ذلك مطلقا ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. سورة البقرة. آية256 ). و الدين الإسلامي لا يكره أحدا على دخوله و لا يضيق على أي من أصحاب الديانات و المذاهب الأخرى. و عندما فهم المسلمون ذلك كانت أعظم حضاراتهم و عطاياهم للبشرية . و هو يضرب بذلك أعظم مثل التسامح و التعايش الإيجابي. و لنا في نموذج الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام  و صحابته الأكرمين و من تابعهم من الصالحين أفضل الأمثلة عبر مراحل التاريخ المختلفة .
إن الاعتراف بمبدأ الفروق الفردية و الاجتماعية و الشخصية بين البشر و داخل المجتمعات لهو أحد أهم مبادئ الحرية التي يجب أن تكون متاحة حيث ينعم بها الجميع بلا استثناء.و لعل الاعتراف بذلك و ممارسته بشكل حر فعال أحد عوامل تشكيل الشخصية الفردية و الاجتماعية بأفضل السبل الممكنة. و لعل افتقاد ذلك في مجتمعاتنا أحد تفسيرات تدهور المستوى الشخصي و الاجتماعي و القيمي لدينا و تدني عوامل تشكيل و رقي الأفراد و المجتمعات عندنا. إن أحد إفرازات ذلك هو أننا ينبغي أن نعترف بأن ليس هناك قاعدة ثابتة محددة يمكن أن يمليها شخص على الآخرين مهما كان موقعه و دوره دون رضاهم و دون إتاحة الفرص لها كي يتم تداولها و مناقشتها و قبولها أو رفضها بشكل واقعي و ليس من قبيل التمرير القسري أو إثبات الحالة . إن ما قد ينجح لدى فرد أو مجتمع قد لا ينجح بالضرورة لدى فرد أو مجتمع آخر لأن هناك صفة إنسانية و اجتماعية عظمى خلقها الله و كانت و ما زالت من أعظم آياته و هي الحرية و التميز الفردي و الاجتماعي و بها تتضح و تظهر قيمتهما الحقيقية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More